انتهت صلاة المغرب، وهاهو العم صالح يسير نحو دكانه الذي يبعد عن المسجد مسافة خمس دقائق على الأقدام. هذا الوقت الذي تضاعف أكثر من مرة مع العم صالح ليس بسبب التقدم في العمر فقط وإنما أيضاً بسبب الوزن الزائد، ومعاناته الأخيرة مع مرض السكري، فأصبح يستغرق أكثر من ربع ساعة في الطريق بين دكانه والمسجد. وقبل أن يصل كان محمد عليم، العامل البنقلاديشي، قد سبقه وفتح الدكان وأخرج المقاعد البيضاء ورصفها بنفس الطريقة التي تعود عليها طوال ١٢ سنة…أربعة مقاعد على اليمين و ثلاثة على اليسار، وكرسي العم صالح في الزاوية بحيث يستطيع معه أن يواجه الشارع وأيضاً يشرف على مايدور داخل الدكان في نفس الوقت.
لا أحد يذكر بالتحديد متى بدأت بقالة العم صالح، فهي الشيء الثابت في هذا الحي الذي تغير فيه كل شيء. ومع ذلك لازالت تعتبر مركز الحي النابض بالحياة. البقالة عبارة عن غرفة مستطيلة بحجم صالة بيت لها فتحة واحدة. كمية البضائع فيها ليست كثيرة، ولكنها ليست قليلة أيضاً. فبالرغم من أنها مرخصة كتموينات غذائية إلا انك قد تجد فيها بعض المستلزمات الرجالية، خردوات، وبعض أدوات السباكة. عند قدومك للبقالة فإن رائحة البن والبهارات تستقبلك على بعد امتار.. هذه الرائحة أصبحت بمثابة الماركة المسجلة لكل ما يخرج من بقالة العم صالح. وعندما يأتي موعد مباريات كرة القدم الكبيرة، تتحول البقالة لبوفية..حينها يحمل محمد عليم التلفزيون خارج المحل ويفرش الأرض بالسجاد ويبدأ ببيع السندوتشات للحضور. أغلب البضائع التي في البقالة تكاد تكون لأشخاص معروفين، وكأنها مستودع الحي الكبير. على الجانب الخارجي من باب الدكان هناك رف صغير للصحف يوجد به تحديداً ٦ جرائد عكاظ و ٤ الوطن و٤ الرياض و٣ الرياضية..هذه الصحف معروضة للبيع ولكن ليس لأي احد، فأصحابها معروفون، وإن كنت لست منهم فلا مانع من تصفحها في المحل وإعادتها.
-اركب يا عم صالح اوصلك…يقولها صاحب سيارة كامري عشبي للعم صالح اثناء عودته من المسجد
-لا يا ولدي خلني امشي، السكر هذا بيموتنا..يرد العم صالح دون أن يعرف من هو صاحب السيارة!
أخيراً يصل العم صالح لمقعده المعد مسبقاً حيث تنتظره هناك قارورة الماء و٣ فناجين قهوة لا تزال مقلوبة. يشرب الماء ويلتقط أنفاسه ويغمض عينيه مع نسمة هواء المغرب الباردة…أو هكذا يشعر بها بعد أن تبلل بالعرق. لحظات من الهدوء يقطعها صوت الجوال:
-ألو..
-مساء الخير يا عم صالح
-من انت..؟
-أنا عبدالله جبران، كلمتك أمس بخصوص ملف الولد، بكرة إن شاء الله يمرك المهندس علي وياخذه وهو رايح للمطار.
-الملف جابه أخوك والبنقالي عنده خبر، أي وقت يمر صاحبك ياخذه.
-الله يجزاك خير ياعم صالح، توصي شي من جدة! وبالله سلم لي على ……
ينهي المكالمة وينادي بصوته العالي: يا محمد…يامحمد وجع، شغل التلفزيون…وتعال صب القهوة. بدأ الزبائن يتوافدون على البقالة، نفس الطلبات تقريباً كل يوم من نفس الأشخاص. في هذا الجزء من العالم كل شيء يكرر نفسه وكل شيء يصبح عادة. الزبائن الذين يأتون بعد صلاة المغرب تستمر عادتهم في القدوم بعد صلاة المغرب…وكذلك الذين يأتون بعد العشاء..يحافظون على نفس الوقت تقريباً كل يوم. أصبحت نفس الوجوه تلتقي كل ليلة وكأنهم اتفقوا على جدول محدد للزيارات لا يحيدون عنه! ومع هذه اللقاءات المتكررة تبدأ نقاشات جانبية، تبادل أخبار، تعليقات على أحداث العالم….وغالباً يشاركهم العم صالح بتعليقاته الساخرة. الجيمع يعرف جيداً متى يكون العم صالح جاهز للمزاح، والجميع لاحظ انه في مزاج متعكر هذه الأيام!
– السلام عليكم..
في هذا الوقت من كل يوم وقبل أذان العشاء يطل أبو عمر، الأربعيني الأسمر، ليشرب فنجان من القهوة والدردشة مع العم صالح:
– وعليكم السلام، مرحبا
-بشر…. هل فيه جديد؟ يسأل وهو يلتقط فنجان القهوة
-لا والله يابو عمر… المرة هذي شكلهم ناوين يقضون علينا…وما باليد حيلة..
-ربك كريم يا عم صالح…ظنتي انه كلام عالورق بس…ذولي مهم صاحين: وين يبغونا نروح ومن وين ندبر حالنا!
-ايييييه يابو عمر…الزمن هذا زمان غيرنا، قالها بصوت مشروخ، وهو ينظر لقدمه التي تحرك قارورة الماء الفارغة على الأرض.
يلتفت أبو عمر باتجاه العامل بعد أن رأى خيال امرأة تؤشر من بعيد:
– يا محمد روح شوف الحرمة إيش تبغى…
يترك محمد الزبائن وينطلق، يتحدث مع السيدة ويعود باتجاه العم صالح:
– هذي أم خالد
– اعطها اغراضها الي في الكرتون الأبيض هناك…لأ لأ… الي فوق الرف..الي جبتها أمس من السوق وجع!
يأخذ محمد الأغراض ويعيدها للسيدة التي بدورها تشير للعم صالح بيديها معبرة عن شكرها وامتنانها أن وفر عليها عناء الذهاب للسوق الذي يبعد حوالي ٤٠ كيلو…الله يجزاك خير وينور دربك، قالتها السيدة بصوت لن يستطيع العم صالح سماعه، ومضت في طريقها.
قبل شهرين…وفي العاصمة الرياض، وتحت القبة الذهبية. في تلك القاعة المهيبة بأسقفها العالية وجدرانها الرخامية السميكة، تلك الجدران التي تتميز بأفخم مواد العزل، تقدم أحد اعضاء المجلس وراح يتلو البيان : معالي الرئيس، وبعد الدراسة والمراجعة ومراعاة للمتغيرات الاقتصادية وسعياً منا في رفع مستوى الجودة، والخدمات، والنظافة المقدمة من البقالات التجارية، وأيضاً رغبةً منا في المساعدة بحل مشكلة البطالة، والإسهام بتوظيف الفتيات، نضع أمامكم الدراسات والأرقام التي تثبت أن البقالات الصغيرة من أكبر مشاكلنا الاقتصادية، ووجودها عائق حقيقي أمام الدفع بعجلة التمنية في الوطن. ويواصل تلاوة البيان، معالي الرئيس، تزامناً مع برنامج التحول الوطني لخلق اقتصاد متجدد نأمل من معاليكم الرفع باقتراحنا والذي نطالب فيه إغلاق جميع البقالات الصغيرة في مملكتنا الغالية والاكتفاء بالمؤسسات الكبيرة لقدرتها على تحقيق ما ذُكر آنفاً والذي سيعود بالخير على المواطنين والوطن…والله الموفق.
الساعة الرابعة من عصر الإثنين، نفس الجيب الأبيض الذي جاء قبل أيام، يخرج صوت (البوري) عالياً، فتهرب معه قطة كانت تأكل بجانب الدكان، وفي نفس الوقت يفز محمد عليم من قيلولته داخل المحل ويخرج مسرعاً..
– وين كفيلك؟ موظف البلدية يسأل
– عمي صالح مافي يجي دحين…هو يجي بعد مغرب
– عمك صالح مايفهم…القرار عنده من أربعة أيام ومهو راضي يقفل البقالة..كأن ماوراي إلا انتم…أنا اوريكم
يخرج الموظف من سيارته قفل كبير وبعض الأوراق ويصرخ في وجه العامل:
– يالله تعال سكر بقالة!
– ليش سكر بقالة؟..عمي صالح مافي موجود…انت كلم عمي صالح…أنا في مشكلة بعدين.
بينما يستمر محمد عليم في استخدام كل أساليب الاستغباء ليثني موظف البلدية عن قراره، يأتي طفل وأخته يركضان بنشوة بين العامل وموظف البلدية، يدخلان المحل وكأنه جزء من بيتهم. يواصل موظف البلدية تهديده بينما يقوم بانتزاع إعلان قديم عن خدمة توصيل الطالبات، ويلصق مكانه قرار البلدية على الباب الخارجي للبقالة.
– مافي قرقر كثير خلاص سكر بقالة وخلي كفيلك يكلمني….والا أجيب لك الشرطة؟
لأول مرة يشعر محمد عليم بهذا الخوف…رأى النهاية في عين موظف البلدية…نهاية لكل شيء…وفي لحظة الصمت هذه وعلامات الهزيمة على وجهه. يشعر بيد الطفل تشد قميصه ويخرج الصوت:
– محمد شوف حساب كم …وسجل عالدفتر.
قالها الطفل وهو يحمل كيس، وتحمل أخته ذات الست سنوات كيس أكبر منه مليء بالمشروبات والشبسات والحلويات. انتبه محمد عليم، وأحس بأنه سيقوم بآخر عملية بيع في هذا الدكان، ودون أن يشعر قال لهم:
– مافي مشكلة، اليوم حساب بلاش، روح انت بيت…
قالها محمد عليم وهو يرسم ابتسامة مصطنعة… ومعها سقطت دمعة من عينه..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ابدعت حبيبنا ابو لمى في هذه التدوينة
قدرة كبيرة على التقاط صور متعددة في زوايا هذا النص رغم قصره
وفقك الله لكل خير
أخوك
ح س ن
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
أشعر باالسعادة حينما أعلم انني التقطت صورة وجدت لها موقعاً في قلبك…اليس هذا هو غاية الأدب؟
شكراً لك ايضاً على تعقيبك…فالردود في تويتر زائلة، التعليقات فقط هي ما تبقى 🙂
تحياتي
تدوينة جميلة جدًا أشكرك عليها… كان الله في عون العم صالح، وفي عون العجوز التي كان يوفر عليها عناء ٤٠كيلو، وفي عون الاطفال الذين سيفتقدون متعة شراء ما يحلو لهم
شكراً على مرورك اخي عبداللطيف…فعلاً، الموضوع أكبر من اغلاق بقالة. بل هو اخلال بالتوازن الاجتماعي، واختطاف لحياة البسطاء، وأكثر من ذلك!
أتمنى أن تصل التدوينة إلى الشخص الذي تلى البيان تحت القبة الذهبية في تلك القاعة المعزولة.
نتمنى ذلك يابو داحم….شكراً لتعقيبك
راااااائع بشكل لا يوصف
تمنيت انك طولت القصة اكثر …مرررره شكرا
شكراً سحر…جميل ان تكون القصة بالروعة التي تقولين. أما بالنسبة لطول القصة فقد تعمدت ان التزم بما يعرف بفن الفلاش فكشن Flash Fiction وهو ذلك النوع الادبي الحديث نسبياً وفيه يرى البعض ألا تتعدى القصة حوالي ١٠٠٠ كلمة!
شكراً مرة اخرى
شكرًا لك يا دكتور
ذكرتني بالدكان الذي تأسست فيه
القصة تحكي واقع مررت به في الماضي
تدوينة جميلة من كاتب اجمل اعان الله العم صالح ويعطيه ربي الصحه والعافية
اتمنى لك التوفيق والي الامام
شكراً على كلامك الطيب اخ فوزي…شرفني مرورك
جميل ورائع الوصف،،، كنت اتمنى ان نطيل اكثر،، ومن الممكن ان تصف كم صعوبة عدم جلسة الاعضاء بعد المغرب والعشاء،، تاثير البقالة الصغيرة على القرية،، الجمال في التركيز على الجانب الانساني
الى الامام، موهبة تصويرية مبدعة.
اشكرك على هذه القراءة المتميزة….بالفعل هناك جوانب انسانية في المجتمعات الصغيرة تكاد تنعدم في (المدن)
شكراً جزيلاً
رائعة من روائعك عزيزي تحكي الكثير عن حاجيات شريحة كبيرة غالية علينا…
كيف لشيء بهذا الحجم لا نتحسس فيه معاناتهم، شكرًا لقصتك التي تعيد لنا الرشد قليلاً، وتصنع الفارق في تفكيرنا لمعتقداتنا وآرائنا المستقبلية عن الصواب والخطأ
اخي الغالي…تعلم انه لابد ان نعبر عن حاجياتنا بأنفسنا وان لا نستعير اقلام الآخرين ليكتبوا عنا…او هكذا اعتقد!
نورك كان ساطع من خلال القصه التي تمعنت في سردها هذا ليس غريب من أحدا أشبال الكتش ابواحمد الأستاذ الفاضل الذي أكرمه الله في ابنائه اتمنى لك التوفيق في كتاباتك القادمه في قصه مشوقه من واقع الحياه لنسعد ونستمتع بعبق الماضى من خلال كتاباتك
ابونادر
الجميل ابو نادر…اسعدتني مرتين، مرة لأنك وجدت في هذه القصة عبق الماضي، ومرة اخرى لأنك نسبت الفضل لأهله وأعني الوالد حفظه الله…شكراً لك ومتعك الله وابنائك بالصحة والعافية
كنت أقرأ القصة واتخيل في نفس الوقت كل الباعة في قرية العشة واللذين ارتحلوا من الدنيا رحمهم الله، واتذكر كل لحظة دكان حسن سالم ودكان محمد حمود ودكان على مصطفى ودكان يحي حبكري رحمهم الله ….ذكريات لا تنسى ابدا. ..واسأل الله ان يعوض العم صالح بخير…شكرا انور
بالفعل اخي ابو هاشم….عندما كنت اكتب السطور كنت اتنقل بين دكاكين القرية. فالعم صالح هنا هو الرمز، ذلك الرمز الذي يستطيع كل منا استبداله بما عاشه في هذا الوطن…شكراً لك
اشكرك اخوي الدكتور انور على هذه التدونيه التي عشت معها لحظة بلحظة
بالطبع ستعيش معها اخي عاصم…فانت كنت تسكن قرب كل الدكاكين المهمة 🙂 شكراً لك
كم انته راااااائع أبا لمى
تدوينتك مميزة وراااائعة جدا وأعجبت بهاكثيرا بورك فيك ي الغالي
واعان الله العم صالح وقواه
الغالي ابو اكرم، فرحت بمرورك الكريم وبكلماتك الجميلة …لك كل الحب
الجميل ابو زياد….دكانكم بالذات كان اكثر ما ساعدني على الكتابة، كانت تجربة جميلة لنا جميعاً، شكراً على كل الأيام الجميلة، ورحم الله والدكم.
اكثر من رائع عشت الجو والله اتمنى ان تكثر من كتابة مثل هذه القصص ويتم تمثيلها لانها راسخه باذهاننا
اهلأ وسهلاً اختي الكريمة وشكراً على تشجيعك
مبدع ،، متألق ،،، مبهر ،،، مميز ،،،❤️
حضرة المحامي …نورتنا يا غالي…شكراً على كلماتك الجميلة وعلى قلبك الكبير 🙂