Loading...

خمسة أسباب تجعل المندي غير مسؤول عن السرطان!

 نقرأ ونسمع باستمرار عن اكتشاف علمي يخبرنا أن الأكل الفلاني سيسبب لنا أحد الامراض القاتلة. فمرة نجد اتهام للحم بالتسبب في مرض السرطان ومرة أخرى نقرأ عن ارتباط وثيق بين القهوة وأمراض القلب، ثم خلال أشهر تظهر دراسة اخرى تخبرنا ان القهوة مفيدة للصحة! لماذا كل هذا التشويش وهذه التناقضات؟ لماذا لا نستطيع أن نجد دليل وجبات سهل وواضح يخبرنا أنواع الامراض وكل أكل مسؤول عنه ؟ متى سينتهي العلماء من تناقضاتهم…وهل هم متناقضين أصلاً؟ أم أن الدراسات نفسها التي يقوم بها الباحثون في هذا المجال تعطي نتائج متضاربة!

في هذه التدوينة سأحاول أن اسلط الضوء على الموضوع من زاوية مختلفة وسأخبركم لماذا لم أعد أهتم بأغلب الدراسات التي تربط أكل معين بمرض محدد، ولماذا أريدكم أن لا تهتموا مثلي! سأسرد الاسباب العلمية التي تمنعني من أن اصدق هذه الدراسات مع اقتناعي التام أن أغلب من بحثوا في هذا المجال بحثوا باخلاص محاولين أن يساعدوا البشرية ويحموهم من الأمراض…ولكن هل النية الطيبة وحدها تكفي؟ كأحد المهتمين بالبحث العلمي وبطرق البحث سأذهب بكم في رحلة مفصلة لماذا توصلت لهذه النتيجة تجاه ( أبحاث الأكل والمرض). إذا لم يكن لديك الوقت لقراءة كامل التدوينة سأختصرها لك في سطر: يصعب جداً الربط بين أكل محدد وبين مرض ما…وإذا قرأت عن أي دراسة تحذرك من أن الأكل الفلاني تحديداً سيسبب لك السرطان لا تصدقها ولا تعيرها أي اهتمام!

جميع الدراسات التي تحاول بحث العلاقة بين الأطعمة والأمراض تندرج تحت ما يسمى علمياً بأبحاث علم الاوبئة الغذائية Nutritional Epidemiology ونجد تحديداً أن أغلب الأبحاث التي تطبق على البشر تكون من نوع منها يسمى بالدراسات الوصفية أو ما يعرف بـ observational studies والدراسات الوصفية بجميع تفريعاتها لا تستطيع أن تكشف لك السببية أو إمكانية الربط بين أن الفعل (س) يسبب النتيجة (ص) وهذه نقطة مهمة ومعروفة  لأي مهتم بالبحث العلمي.

عدم الإستقرار واختلاف نتائج الأبحاث الوصفية في مجال التغذية ليس جديد. من أشهر الأمثلة على بعض تناقضاتها تلك الدراسات التي نُشرت عن العلاقة بين شرب القهوة والسرطان. في عام ١٩٨١ نُشر بحث في إحدى أشهر المجلات الطبية في العالم New England Journal of Medicine حيث تقول الدراسة أنه تم اكتشاف علاقة قوية بين شرب القهوة واحتمالية الإصابة بسرطان البنكرياس. كان لهذه الدراسة صدى في وقتها واحتلت عناوين الصحف وتأثر بها الكثير من الناس. بعد ذلك بحوالي ثلاثة عقود نشرت نفس المجلة بحث يقول أن هناك علاقة عكسية بين شرب القهوة وفرصة الإصابة بالسرطان، بمعنى أن شرب القهوة قد يساعد على منع حدوث السرطان! مالذي حدث؟ وكيف ستكون ردة فعل المواطن العادي الذي امتنع عن شرب القهوة التي يحبها لمدة ٣٠ سنة ليكتشف بعدها انه معرض للسرطان اكثر من صديقه الذي كان يستمتع بالقهوة كل يوم؟! لاحظ ان البحثين منشورة في نفس المجلة العلمية التي تعتبر رائدة في الأبحاث الطبية! مثل هذه التناقضات شيء متكرر في عالم الأبحاث وخصوصاً التي تتم بالطريقة التي أشرنا اليها سابقاً. أما اذا كان الامر متعلق بالأمراض المزمنة مثل السرطان أو أمراض القلب، تصبح النتائج محيرة ويصعب على أي شخص في العالم أن يطبق جميع النتائج في نفس الوقت.

ولكي يصبح سرد الأسباب أسهل دعونا ننظر للخبر الذي نشرته صحيفة عكاظ ومنها نقلته عشرات الصحف والمواقع والذي جاء تحت عنوان: دراسة: «المندي» من أسباب سرطان البلعوم! القارىء للخبر يفهم النتيجة المنطقية التالية: ٤٣ مريض اصيب بسرطان البلعوم نتيجة أكل المندي!  وهنا نقول لأي شخص فهم بهذه الطريقة: خطأ خطأ خطأ (على طريقة محمد عبده في اغنيته الشهيرة: خطأ).

لا أتوقع أن الدكتور خالد حكمي قال ذلك، لأنه مستحيل أن يتم الربط بهذه الطريقة ولكن الإعلام كالعادة يريد أن يصنع الخبر، وبالتالي تتحول المعادلة ويصبح الصحفي معني بتفسير الأبحاث العلمية فيتشكل لدى الناس وعي خاطىء. في القسم المتبقي سأذكر الاسباب الرئيسة التي تجعلنا نشكك في أغلب نتائج الدراسات من هذا النوع:

١- السبب الأول: أبحاث الأكل التجريبية على الحيوانات لا يمكن تطبيق نتائجها على البشر

أثبتت التجارب المخبرية انه عند طبخ اللحوم بدرجات حرارة عالية مباشرة على الفحم أو أي مصدر حرارة تتشكل مواد مثل (Heterocyclic amines (HCAs)- polycyclic aromatic hydrocarbons (PAHs) and nitrosamines (NAs)  وهذه المواد/ المركبات تعتبر مسرطنة وقد تم التأكد من خطرها بعد عمل تجارب مخبرية على الفئران، حيث قاموا بتغذيتها بأطعمة تحتوي على هذه المواد ولكن بشكل مضاعف الاف المرات عن النسبة التي توجد في أطعمتنا (بمعنى مثلاً لو قلنا أن تركيز مادة الـPAHs في طعامنا كانت بقوة خمسة PAHs فإن الطعام الذي تم تقديمه للفئران في المختبر يحتوي على PAHs بقوة تصل لأكثر من ٧ الاف PAHs) وهذه نسبة مستحيلة ولا يمكن أن تجدها في أي أكل مهما كانت طريقة طبخه. أغلب الأبحاث المخبرية الغذائية تتم على الحيوانات بهذه الطريقة، علماً أنه عن طريق الابحاث التجريبية فقط ( وليست الوصفية) نستطيع أن تقول أن الأكل الفلاني يسبب المرض الفلاني. السؤال اذاً..هل يمكن تطبيق ابحاث  تجريبية مشابهة على البشر؟ لا..بل مستحيل. حسناً، ماهي النسبة التي تسبب السرطان من مادة PAHs أو مادة ال NAs…الجواب:  لا أحد يعلم!

٢- السبب الثاني: المعلومات التي يتم جمعها من الناس غير دقيقة

في هذه النوع من الدراسات يتم جمع المعلومات عن طريق مجموعة كبيرة من الأسئلة عن الأكل وعن نمط الحياة بشكل عام. وفي مثال المندي حتماً سيكون هناك اسئلة مثل: هل تأكل المندي؟ كم مرة في الاسبوع؟ لمدة كم سنة؟ ومن هذا النوع من الاسئلة التي غالباً يضعها الباحث للاجابة عن شيء يعرفه و يظن أن له علاقة ( لا يمكننا أن نسأل عن شيء لا نعرفه، أو عن شيء لا نظن أن له علاقة…اليس كذلك؟). ايضاً كل المعلومات التي يتم جمعها تعتمد على مقدار دقة وذاكرة عينة الدراسة. ومهما كانت الاسئلة دقيقة ومفصلة فستغفل جوانب أخرى…مثلاً، هناك من يأكل المندي وفي نفس الوجبة يأكل معه ( جريش) أو (مرقوق) أو (خمير) وهناك من يشرب بعده شاي أو من يشرب معه بيبسي. أي أن أكل المندي غالباً لا يتم لوحده وإنما ترافقه أكلات ومشروبات أخرى، ما مدى تأثيرها على النتائج؟ وكيف يستطيع الباحث إتهام المندي مثلاً وتبرئة الأصناف الأخرى؟ نستطيع أن نكتب قائمة غير منتهية من الإستفسارات التي تؤثر على طريقة جمع المعلومات وبالتالي تؤثر في دقة نتائج البحث.

3- السبب الثالث: المعلومات التي يتم جمعها عن الأكل دائماً ناقصة

في مثال المندي نجد أن المتهم هو ( اللحم المطبوخ على الفحم) نستطيع أن نجد مئات الفوارق بين صحنين مندي…ولهذا السبب نحب المطعم الفلاني أكثر من غيره لأن المندي عندهم ألذ. فمثلاً في الدراسة المذكورة تم التعميم على المندي ولكن هل كل اطباق المندي تطبخ بنفس الطريقة؟ وهل تبقى على النار نفس المدة؟ هل استخدمت معها مواد معينة لإضافة نكهة على الطعم؟ هل كانت الذبيحة بصحة جيدة؟ بل نستطيع أن نذهب أبعد من ذلك ونسأل عن تغذية هذه الحيوانات…فلو قمنا بتحيل دم كل ذبيحة سنجد فوارق شاسعة بينها! هذه الفوارق لايمكن التحكم بها ولا يمكن التحكم بتأثيرها على النتائج.

٤- السبب الرابع: يستحيل الحصول على مجموعتين متماثلة للمقارنة

في أي دراسة وبائية هناك على الأقل مقارنة بين مجموعتين، وأظن البحث في مثال المندي تم باتباع مايعرف بـ (Case-Control Retrospective Observetional Study) بحيث يتم تحديد مجموعة مصابة بالمرض ومجموعة ليس لديها المرض تستخدم للمقارنة. وهنا سنعود مرة اخرى لمثال المندي…هل تمت المقارنة بين اكل ٤٣ شخص مصاب بسرطان البلعوم الحلقي وبين ١٣٠ شخص غير مصاب (لم يذكر الخبر  عدد العينة السليمة ولكن ينصح بأن يكون ٤ اضعاف العينة المصابة لتفادي بعض المشكال الاحصائية). هل كل الأشخاص السليمين لم يأكلوا مندي في حياتهم؟ وماذا عن الأشخاص الذين أكلوا المندي ولم يصابوا بالسرطان؟ لماذا لم يحدث لهم شيء؟ ماهي الفروقات بينهم وبين ال٤٣ مريض؟ أيضاً ماذا عن التركيبة الجينية للأشخاص المصابين مقارنة مع الغير مصابين؟ ماذا عن أقاربهم الذي أكلوا معهم نفس الأكل ولنفس المدة ولم يصابوا بالسرطان؟ هذه الأسئلة وغيرها يستحيل التحقق من إجابتها في هذا النوع من الدراسات، ولكنها تؤثر جذرياً على نتيجة البحث.

٥-السبب الخامس: دائماً هناك مشاكل إحصائية معقدة في هذا النوع من الدراسات

لا نريد أن نتطرق بشكل مفصل عن المشاكل التي نواجهها  في حجم العينة و طريقة تحليل البيانات وصعوبة التحكم في التداخلات أو مايعرف بالـInteraction. هذا النوع من الأسئلة سيجعل النقاش إحصائي ممل لغير المختص. ولكن سأركز على مشكلتين شبه متكررة في هذا النوع من الأبحاث: المشكلة الأولى هي طريقة جمع العينة، يتم عمل هذا النوع من الأبحاث بطريقة استرجاعية يتم فيها تحليل بيانات الأشخاص الذين أصابهم المرض. هذه الإشكالية تجعل العينة غير محايدة ومعها يستطيع الباحث إيجاد بعض العوامل المشتركة بين أصحاب المرض وبالتالي يطلق حكم ظاهره صحيح ولكن طريقة الوصول له خاطئة. المشكلة الثانية  هي مشكلة مايعرف بـ ايجابي – خاطئ  أو False-Positive وفيه تخبرنا الارقام بوجود علاقة بين شيئين ( نتيجة ايجابية) بينما في الحقيقة لا توجد أي علاقة وهذه النتيجة الإيجابية ظهرت بالصدفه (نتيجة خاطئة). تزيد احتمالية الصدفة  نتيجة تكرار التحليل الاحصائي، وذلك لان الباحث أمامه العشرات من عوامل الخطر ويتم إجراء الإختبار على كل واحد ويُنظر لعلاقته وتستمر العملية وتتكرر فينتج عنها ما يعرف إحصائياً بالخطأ من النوع الأول. هناك العديد من الطرق الإحصائية لتجاوز كل هذه المشاكل ولكنها تبقى مشاكل حقيقية وعملية حلها تحتاج لمعادلات رياضية تساعد على تقليلها لكنها لا تلغيها.

هذه الأسباب المذكورة جعلتني أوصل لهذه النتيجة…يصعب جداً الربط بين أكل محدد وبين مرض ما!

ماهو الحل اذاً؟ وهل يعنى ذلك أنني أطالب بأكل أي شيء لأن كل الأكل صحي بنفس الدرجة؟ بالطبع لا….في هذه التدوينة لم أحاول أن أدخل في متاهات التغذية الصحيحة وماذا يجب أن نأكل. هنا حاولت فقط  أن أوضح أن ربط أكل محدد بمرض ما  يعتبر خطأ. فلو قمنا بتحليل المكونات الكيميائية لأغلب المأكولات لوجدنا انه لا يكاد يخلو طعام من وجود مركب كيميائي أثبتت الدراسات المخبرية أن له علاقة بمرض ما…..هل يعني ذلك أن نتوقف عن أكل ٩٩٪ من طعامنا؟

ملاحظات مهمة

١- قمت بكتابة التدوينة كرد عام على الخبر الصحفي وليس تقييم للدراسة التي لم أطلع عليها.

٢- متاكد أن الدكتور خالد حكمي طبق اساسيات البحث العلمي ولا أعتقد انه جعل المندي سبب مباشر للسرطان كما يوحي الخبر.

٣- أرحب بالنقاش عن كل معلومة ذكرتها وأعتذر عن أي خطأ أو نقص. كذلك أرجو عدم التردد في مناقشة/ تصحيح أي معلومة تم ذكرها في هذه التدوينة.

٤- أشتاق كثيراً للمندي ولم أتذوقه منذ أكثر من عام وأكتب هذه التدوينة وأنا صائم…كل هذه الأسباب تعطي الحق للقارىء الكريم بأن يشكك في حياد وموضوعية الكاتب 🙂

You might also like

1 Comment

  • طه الحازمي 8 سنوات ago Reply

    من المؤسف أن نرى دائمًا أخبار وتقارير محتواها يكون بهذه الطريقة،، تسرع في اطلاق السبق والمعلومات وبعد عن المهنية في نقل الخبر الصحفي من المقالة العلمية
    المعلومة الصحيحة دائمًا أقل تشويقًا أو غير موجودة تحديدًا وأصعب في الوصول إليها ولا تخالف ما يألفه العقل عادةً وهذه كلها أشياء تعكر مزاج الصحفي وكأي موظف آخر يحاول أن يؤدي عمله بأقل جهد بتحقيق أكبر عائد لنفسه وللمؤسسة

Leave a Reply