Loading...

أمريكا…سبع سنوات من الحياة!

بعد أن عودتنا شركات صناعة الجوالات كنوكيا وغيرها على إصدار أجهزة بأسماء مختلفة، جاءت لنا شركة آبل بطريقة أكثر منطقية وسهولة وفيها يتم ترقيم إصدارات الجوال بشكل تسلسلي نفهم معه مثلاً أن ايفون ٤ افضل من ايفون ٣ وهكذا. هذا الطريقة في التحديث نمارسها أيضا نحن البشر، وهنا أعني أننا نمر بمراحل نمو وتطور في سلوكنا وفهمنا للحياة بحيث نصبح بعد كل فترة شيء مختلف عما كنا عليه من قبل. المراحل الدراسية وما يرتبط معها من تغييرات يعايشها أغلبنا تعتبر مثال حقيقي لمراحل التطور هذه. من هذا المنطلق سأعتبر مرحلتي في سنوات المدرسة هي النسخة التجريبية في الحياة. بعد ذلك انتقلت للرياض ودرست الجامعة وعملت فترة هناك ثم رجعت لمنطقتي وقريتي، حينها أصبحت بالنسبة لزملاء المدرسة وأصدقاء الطفولة شخصية في نسخة محدثة ترتبط بالنسخة الاولى ارتباط مهم ولكنها تختلف عنها اختلاف واضح. بعد أيام سأعود لقريتي ولأصدقائي من النسختين الاولى والثانية اذا جاز التعبير، وبعد غياب لسبع سنوات في امريكا سنعتبر هذه النسخة أيضا على طريقة آبل ، الاصدار الثالث أو Anwar 3.0

هكذا اذاً….جاءت اللحظة التي انتظرتها بلهفة، وخوف، وفرح، وأيضاً بحزن! في هذه الأيام أجمع بعضي وألملم استعداداً للعودة من بلد الابتعاث الولايات المتحدة الامريكيةعائداً لوطني الذي أحبه ويحبني وللناس الذين لولاهم لما أحببت وطني منذ البدء. سبع سنوات قضيتها هنا حققت فيها بتوفيق الله أكثر مما نويته عندما جئت وأنجزت فيها أقل مما استطيع. ولأنه من الصعب جداً أن أجمع كل هذه الرحلة الطويلة والمتعرجة في تدوينة واحدة فسأختارأهم المحاور التي ساهمت هذه السنوات السبع في إعادة تشكيلها.

العـائـلـة

مجرد أن اقول اننا كنا شخصين عندما بدأت البعثة والآن اصبحنا أربعة ولله الحمد فهذه لوحدها تحتاج من الحمد والشكر ماليس له حد. رزقني الله بابنتي الأولى لمى بعد ١١شهر من قدومي لأمريكا وبعدها بحوالي ٣ سنوات رزقني الله بطفلتي الثانية يسرى والتي تشكل الآن مع أختها لمى ثنائي مميز يشعون فرح وسعادة في حياتي أنا وأمهم .كانت تجربة الأبوه اكتشاف عظيم وأصعب مما تخيلت خصوصاً في عائلة تتكون من أم وأب فقط دون أي اقارب

على المستوى الأسري كان كل  شيء مختلف عما تعودنا عليه انا وزوجتي في السعودية. سأتطرق لمثال واحد فقط وهو ولادة زوجتي مرتين وكيف كان سيختلف كل شيء لو حدث ذلك ونحن في الوطن. جاءت الولادة الأولى وكنت شاهداً عليها في غرفة الولادة بل وقطعت الحبل السري بيدي. ماذا عن أول اسبوعين بعد الولادة؟ كانت معاناة حقيقية عشتها وعاشتها زوجتي لازلنا نتذكرها بفرح وسرور حيث إنني استطعت أن اهتم بزوجتي وطفلتي الجديدة وكذلك كانت تجربة مهمة لزوجتي في الاعتماد على نفسها حتى في موضوع خطير ومخيف مثل الولادة الأولى. كنت حينها أشعر انني انجزت اصعب أسبوعين في حياتي، لم أكن اعلم ان اسبوعين آخرين ينتظران، حدث ذلك بعد ثلاث سنوات عندما ولدت يسرى، هذه الصغيرة الفاتنة قررت ان تخرج قبل موعدها بحوالي ٦ اسابيع!! هل قلت إنني قضيت أصعب أسبوعين في حياتي عندما ولدت لمى؟ اعتذر عن ذلكفالأسبوعين التي تلت ولادة يسرى كانت شيء لا يمكن وصفه، فهذه الصغيرة ولدت بحجم القطة وقرروا خروجها من المستشفى بعد أقل من يومين، هناك أيضاً أم متعبة تحتاج لرعاية، والان لدينا لمى ذات الثلاث سنوات التي تنتظر أي فرصة لتقفز على هذه اللعبة الجديدة! هذا الموقف المعقد يجعل كل شيء صعب التعامل معه بالإضافة طبعاً لولادتها في فترة حرجة من برنامج دراستي للدكتوراة.

ماذا اريد أن اقول هنا؟ اريد ان اقول انني كنت محظوظ بأن أكون لوحدي بجانب زوجتي وطفلتاي في مثل هذه الظروف وغيرها..هذه التفاصيل جعلتنا اقرب وجعلتنا نعاني على مستويات مختلفة. تفاصيل الحياة الصغيرة هي الحياة بحقيقتها، أو هكذا قرأت في مكان ماأجزم ان هذه الجرعات من المعاناة والتحديات هي الحياة في اكثر لحظاتها تجلي، خصوصاً عندما تتحول لذكريات جميلة وتصبح رصيد من المحبة والتقدير. أيضاً هناك أمر آخر قد لا نجده في عوائلنا المتشعبة في السعودية، وهنا أعني الاستقلالية، فعائلتي في البداية هي زوجتي، وعائلتي الكبيرة أصبحت زوجتي وطفلتاي فقط. نرتب أوقاتنا وإجازاتنا ورحلاتنا ومصاريفنا واحتياجاتنا على هذا الاساس. هذا النوع من الحياة المستقلة و (المتأمركة) شيء جميل جداً في أحيان كثيرة، ومتعبة ومحبطة في بعض الأحيان. أنا ممتن لسنوات البعثة بشكل خاص لانها جعلتني أعيش تفاصيل الحياة العائلية المستقلة والتي اظن باذن الله أنها ستكون رصيد رائع للمستقبل. أختم  هذا الجزء عن العائلة بمقولة دون كارلوني اسطورة  فلم العراب: (الرجل الذي لا يقضي وقت مع عائلته لا يمكن ان يصبح رجلاً حقيقي).

الدراسة

تجربتي الدراسية لم تكن واضحة المعالم منذ بدايتها. كنت أرفض فكرة الابتعاث من أجل اللغة واعتبرت أنه من الأجدى الدراسة للتوفل بشكل شخصي في السعودية والسفر لامريكا لاجراء المقابلات ثم العودة. اتخذت هذا القرار بعد أن شاهدت تجارب بعض الزملاء الذين سبقوني وكيف كانت معاناتهم في فترة ماقبل القبول. استمرت محاولاتي في البحث عن قبول حوالي اربع سنوات تخللتها ثلاث مقابلات في ثلاث رحلات متفرقة لأمريكا ورحلة شبه رسمية للسويد. بعد ذلك جاءني قبول برنامج فلوشيب بحثي في تقويم الاسنان لمدة سنة في امريكا. هذا البرنامج لم يكن معتمد وقتها وقد كان لجامعة جازان ولعميد كلية طب الاسنان حينها الدكتور فيصل طبيقي وقفة مميزة في دعم مثل هذه البرامج في وقت كانت جامعات بحجم الملك سعود والملك عبدالعزيز ترفض مثل هذه الخطوة.

جئت إذاً لأمريكا على قبول لمدة عام أشبه ما يكون بعقد مؤقت، اذا اعجبتهم قد يأخذوني لبرنامج الزمالة، واذا لم اوفق فستكون النتيجة كارثية وهي العودة للوطن والبحث عن قبول من جديد مع كل ما يلحقه من ضغط عائلي واجتماعي لما سيكون اشبه بالفشل.  بحمد الله استطعت أن أحصل على القبول للزمالة في تخصص تقويم الاسنان بجامعة جاكسونفيل وبذلك استمرت فترة اقامتي في مدينة جاكسونفيل ولاية فلوريدا لمدة ٣ سنوات كاملة. تجربة فلوريدا الدراسية كانت مرهقة ولم تسمح لي باستغلال وقتي والاستمتاع بولاية جميلة مثل فلوريدا. كان جدولي اليومي يبدأ حوالي ٧ صباحاً وأعود للبيت حوالي ٧ مساءً، هذا الجدول لمدة ٣ سنوات يجعل حياتك دراسة وبيت فقط وقليلاً من المتعة في عطلات الاسبوع. شعرت مع اقتراب نهاية برنامج الزمالة أنني لم اكتف بالحياة في الغربة، كان أمامي خيارين، إما أن أمدد لسنة دراسية وأحصل على الماجستير ثم أعود للوطن أو أن امدد رحلة الاغتراب لحوالي ٤ او ٥ سنوات وأحصل على الدكتوراة. بعد مشاورات مع زوجتي واسرتي في السعودية قررت أن اذهب لأبعد ما يمكن.  في الحقيقة لم يكن طلب العلم هو الدافع الوحيد رغم أهميته، لكنني أعلم أن حياة الدكتوراة البحثية أقل ضغط من حياة الزمالة وبالتالي سأستطيع أن أفعل كل شيء لم أستطع فعله في أول ثلاث سنوات!

في وقت قصير توفر لي قبول دكتوراة في جامعة كيس وستيرن بمدينة كليفلاند ولاية اوهايو. كانت رحلة مختلفة وحياة لم تكن في الحسبان، فالانتقال من مدينة بحرية بطقس ساحلي الى مدينة عتيقة يسكنها الثلج خمسة أشهر كل عام لم يكن شيء سهل التأقلم معه. كانت البداية صعبة نوعاً ما ولكن مع الأيام أصبحت كليفلاند هي المدينة الأجمل في نظري ونظر زوجتي وأطفالي. ربما كان تنوع الحياة والطقس والمواسم ووجود وقت كافي للمتعة جعلها كذلك..ربما! نعود الان للدراسة، في جامعة كيس وستيرن بدأت برنامجي للدكتوراة وقد كانوا كرماء جداً معي، فبعد بضعة أشهر من بداية برنامج الدكتوراة عرضوا علي وظيفة بدوام جزئي في قسم تقويم الأسنان بحكم أنني اتممت برنامج الزمالة وحصلت على البورد الامريكي ثم الزمالة الكندية في تقويم الاسنان. هذه الحالة الإستثنائية والجميلة التي عشتها متنقلاً بين كلية العلوم والطب من جهة، وفيها ادرس مواد الدكتوراة وأعيش دور الطالب بتفاصيله، تتحول في اليوم التالي الى شيء مختلف عندما اداوم في قسم تقويم الاسنان كاستاذ مساعد أعالج المرضى واشرف على طلاب الزمالة وأشارك في اجتماعات القسم. تغيير القبعات هذا استمر معي حوالي ٤ سنوات وأعتقد أنه أضاف لي الكثير من الناحية العلمية وأيضا اكتسبت معه خبرات وظيفية في جامعة عريقة عمرها اكثر من ١٩٠ سنة وفي أحد اقدم برامج تقويم الأسنان في العالم.

اي المرحلتين أصعب؟ بدون تردد أعتبر أن فترة الزمالة كانت أكثر إجهاد وتعب وحتى أكثر صعوبة إذا ما اعتبرنا اختبارات البورد الامريكي والزمالة الكندية جزء منها. وهنا سأعترف انني شخص قليل الحظ مع الاختبارات، وجميع من يعرفني في الدراسة بجميع المراحل يعلم انني غير جيد في أداء الاختبارات. هذا البخت مع الاختبارات كلفني حوالي ٢٠ الف ريال وهو قيمة اعادة اختبار الزمالة الكندية بعد ان أخفقت في احد اختباراتهم البائسة. اذكر ذلك وأنشره لأني أعلم ان الإخفاق جزء من لعبة الحياة، بل إنه يصبح ذكرى جميلة عندما تتجاوزه وتتعلم منه. قد تكون قرأتني في الفيسبوك أو في تويتر وأنا انشر خبر اجتيازي لاختبار أو حصولي على شهادة أو تكريم، من الطبيعي أن نشارك الآخرين انجازاتنا ونجاحاتنا لاسباب كثيرة قد يخبرك بها العم فرويد. ولكن تذكر دائماً أن هناك قصة اخرى وجانب مظلم لا نشاركه كثيرا ونبقيه بعيداً لنظهر للآخرين بصورة أجمل واروع من واقعنا، هنا شاركت أحد هذه الجوانب واخفيت الكثير!. نعود للدكتوراة وبرنامجها، كانت رحلة الدكتوراة ممتعة لأنها ركزت على جوانب محددة كنت أعلم أنني ضعيف فيها وهي مثلاً الكتابة البحثية، طرق البحث، التقنيات البحثية في التخصص، التفكير النقدي..الخ. تعلمت في مرحلة الدكتوراة الكثير ليس من المواد والمناهج فقط، وإنما من الاساتذة الذين عملت معهم وخصوصاً من هم من خارج التخصص وكنت محظوظ أكثر بتوفر الوقت والموارد العلمية، فبضغطة زر كنت أحصل على أي كتاب اريده من جميع مكتبات جامعات اوهايو والتي يصل عدد مراجعها لاكثر من ٦٠ مليون كتاب ودورية كانت تصل لمكتبي خلال بضعة ايام.

ماهي خلاصة تجربتي الدراسية على مستوى العيادة او البحث العلمي؟ على مستوى المهارات أعتقد ان برنامج الزمالة أعطاني كل شيء احتاجه لاعالج المرضى بأفضل شكل. في المقابل أظن أن برنامج الدكتوراة أعاد تشكيل طريقة تفكيري العلمية وجهزني لأن أكون أستاذ وباحث لديه أبجديات المنهج العلمي. أما على مستوى القناعات والأفكار المتعلقة بمجالي الوظيفي فسأذكر أهم الأشياء التي تعلمتها بالتجربة والخطأ خلال هذه السنوات السبع: في العيادة، تعلمت أن لكل مريض قصة، هذه القصة تختبئ خلف جدار سميك نصنعه نحن المشتغلين في المجال الطبي. أعتقد أن ما يميز الطبيب والمتخصص الناجح عن غيره هو القدرة على اجتياز هذا الجدار الجليدي السميك، يبدأ ذلك عندما نستمع جيداً وبرغبة صادقة لهذا المريض أو هذه المريضة مهما كانت العلة ومهما بدا الكلام مكرر، اذا تعلمنا ان نستمع جيداً ونستحث المريض لقول مالديه نكون أنجزنا ثلاثة أرباع المهمة دون الحاجة لأي امكانات أو موارد. على مستوى الدراسة تعلمت أننا نجهل الكثير مهما تعلمنا، فالشهادات شيء نفعله من أجل الوظيفة والترقية، اما العلم فهو شيء مختلف ليس له علاقة بالشهادات. تعلمت ايضاً أن نصدق مع أنفسنا ونواجهها بمواطن الضعف والجهل، ستكسب اولاً احترامك لذاتك، وبعد ذلك ستشتغل على نقاط ضعفك وستتحول لنقاط قوة وتميز. أخيراً اكرر شيء ربانا عليه والدي حفظه الله وهو انه لا يهم أين درست وماذا درست وماهي الشهادات والنجاحات التي حققتها، كل ذلك لا يهم إذا لم ينعكس على سلوكك وأخلاقك كمثال للمتعلم المتواضع الذي تسبق أخلاقه شهاداته. أختم هذا الجزء عن الدراسة والعلم بأحد اقوال العالم كارل ساجان (العلم هو طريقتك في التفكير اكثر من كونه حجم المعلومات التي لديك).

الحياة في امريكا

هل تظن انني قضيت سبع سنوات من حياتي في امريكا أعد الأسنان وأعيد ترتيبها فقط؟ هل تعتقد أنني أقضي نصف يومي في القراءة والنصف الآخر في الاهتمام بألعاب اطفالي ومسؤولياتي كرب أسرة؟ حسناً اذاً،  تعال معي في جولة خاطفة لشكل حياتي خلال هذه السنوات السبع. أولا دعني اعترف لك باعتراف آخر، أنا مثال سيء للطالب المجتهد الذي أخبرونا عنه في المدارس، ذلك الذي ينهي اموره الدراسية بشكل منتظم، على العكس، فأنا من يصدق عليه المثل الذي يؤجل عمل اليوم الى الغد..ولكن عندما يأتي الغد أنهي شغله وشغل الايام التي قبله في الوقت المطلوب. هذا التأجيل لفتراة طويلة والذي يتبعه شغل مركز وكثيف لأيام محدودة جعلني أفعل أشياء وأمارس هوايات غالباً لا تتناسب مع أهمية المرحلة. عرفت ذلك عن نفسي منذ البداية، وعرفت أنني شخص يتعامل مع ( الديد لاين) أو اللحظات الاخيرة أكثر من الترتيب اليومي. أذكر أن إحدى الاساتذة طلبت منا أن نكتب بشكل صادق كل شيء نفعله في ذلك الأسبوعبعد أن شاهدت جدولي سألتني ماذا تفعل؟ لا أرى وقت مخصص للكتابة أو المذاكرة أو المكتبة..كان الجدول مليء بمشاهدة التلفزيون والمباريات والتمشيات وأشياء أخرى ليس لها علاقة بالدراسة. قلت لها انت طلبت ان نكتب بصدق، وهذا ماحدث بكل صدق خلال هذا الاسبوع، ومن المؤكد ان الاسبوع القادم سيكون مليء بالمذاكرة والقراءة ونحو ذلك!

كان أهم قرار اتخذته في بداية بعثتي هو أن أعيش اشياء مختلفة وأجرب اشياء جديدة، ولكي أفعل ذلك كان من المهم أن أبتعد متعمداً عن روتين الاصدقاء السعوديين والعرب. أحمد الله أنني لم انجح في ذلك الابتعاد بشكل كامل، فقد كسبت أصدقاء من السعودية وبقية الدول العربية أعتبرهم مثل الإخوة. هذا الإبتعاد المقصود وفر لي وقت كافي لأمارس أشياء اختارها بنفسي، فمثلا على المستوى الرياضي حضرت مباريات في السلة وكرة القدم الامريكية وحاولت أن أتابعها باهتمام. كان لذلك أثر رائع  حتى على مستوى حواراتي مع الزملاء او مع الطلاب والمرضى، خصوصاً اذا علمنا أن الامريكيين يعتبرون الرياضيين المحترفين قدوات وأمثلة في النجاح. أيضاً جربت رياضات جديدة بعضها لأيام مثل التجديف و ركوب الامواج (والتي فشلت بها فشل ذريع) وبعض الرياضات جربتها لأشهر مثل القولف ( والتي لا اعتبرها رياضة حقيقية) وكذلك استمتعت لفترة قصيرة برياضة الفروسية. أما الرياضتين التي بقيت معي فترة طويلة ولا زلت امارسها فهما رياضة التنس الارضي ورياضة الدراجات.

بالحديث عن الرياضة لابد أن أتوقف قليلا عند موضوع مهم وهو التمارين اللياقية أو الفتنسكنت قد تأخرت كثيراً في الالتحاق بنادي رياضي، بعد ذلك ولمدة ٤ سنوات التحقت بحوالي ٦ اندية رياضية مختلفة في طريقة تدريبها، بدأت مثل الجميع بصالة الحديد التي اكتشفت مع الوقت أنها ليست المكان الذي أجد نفسي فيه رغم استمراري لسنة ونصف في صالات الحديد بشكل شبه منتظم.  أتذكر قراري المفاجئ وأنا استعد لأحد التمارين، فجأة قررت ان هذا المكان ليس لي، اخذت اغراضي وذهبت للاستقبال وطلبت نموذج الغاء العضوية! كان ذلك اخر عهدي بصالة الحديد. كنت قبلها قد بدأت القراءة عن الرياضة كأسلوب حياة وكعلم مستقل بذاته. كان ذلك بسبب فرق واضح في الثقافة الرياضية يظهر بيني وبين اي شخص من المجتمع الامريكي مهما كان عمره أو تخصصه، فحتى اللذين لا يمارسون الرياضة منهم يعرفون ابجديات اللياقة والصحة الرياضية والانظمة الغذائية. ولكي أزيل عن نفسي بعض الجهل الذي لا يليق بأي شخص متعلم لاسيما من يعمل في مجال الصحة قررت ان اركز القراءة في هذا المجال وساعدني في ذلك عضوية شبه مجانية للطلاب الدكتوراة في الجمعية الأمريكية للطب الرياضي. أثناء مرحلة القراءة العلمية الرياضية هذه كانت تظهر لي أفكار وخيارات متاحة في مدينتي. بعد أيام من الغاء عضوية صالة الحديد توجهت لنادي تدريب رياضة المو تاي او الكيكبوكسينج على الطريقة التايلندية. كانت تجربة جميلة إستمرت لحوالي ٣ أشهر، أعجبني فيها المرونة والخفة التي تكتسبها معهم، ولم يعجبني فيها أنها تركز كثيراً على التقنيات الحركية. كان هدفي في كل نادي رياضي التحق به واضح، أريد ان أتعب وأتعرق بشكل ممتع ومفيد لجميع أجهزة الجسم. بعد رحلة معرفية وتجريبية مطولة وجدت ضالتي في الرياضة الاقدم في التاريخ، رياضة الملاكمة، لحظةلا تستعجل في حكمك وتظن أن طبيب أسنان أصبح في يوم وليلة ملاكم، ما أقصده هو أن تدريبات الملاكمين خارج الحلبة هي أفضل تدريبات تحقق القوة والرشاقة واللياقة والمرونة، هل هناك رياضي أعظم من محمد علي كلاي؟ منذ ذلك الحين وانا اتردد على اندية رياضية تطبق تمارين لياقية مشابهة لما يفعله الرياضين المحترفين أو ما يطلق عليه sport conditioning. أتمنى من كل قلبي أن تتوفر لدينا أندية رياضية من هذه النوعية بعيداً عن الصورة التقليدية لصالات الحديد التي لا يستمر معها الا القليل! هل تعلم لماذا لا يستمر الكثيرين في صالات الحديد؟ لأنها ليست الطريقة الطبيعية التي يتدرب بها الإنسان وإنما هي شيء طارئ ظهر في القرن الجديد أجادت في تسويقه شركات صناعة ألأجهزة والمكملات الغذائية (هذه معلومة وليست رأي!). أذكر تفاصيل رحلتي مع الاندية الرياضية لسبب مهم وهو أنني مدين بالفضل لهذه التمارين وهذه الاندية في اخراجي من جو الرتابة الدراسية والملل وابقاء الجسم والذهن بحالتين جيدة وقادرة على العطاء. كنت لفترة طويلة أعاني من آلام الظهر بسبب طبيعة عملي كطبيب أسنان، وبعد ممارسة الرياضة بحمد الله زالت الآلام واصبحت قادر على الاستمتاع بيومي. إن الإهتمام بالرياضة وطريقة الأكل أعتبرها شيء مهم حدث لي اثناء الغربة، هي اذاً ليست ترف أو (فضاوة) كما يبدو للوهلة الاولى، بدون الرياضة كنت سأعاني أشياء كثيرة على المستوى الذهني والنفسي والبدني، أتمنى أن أحافظ على هذا الإهتمام وأن أنقل معي هذه الثقافة.

عطلة نهاية الأسبوع! بالنسبة لي قبل الابتعاث كانت عطلة نهاية الأسبوع هي يومين يكثر فيها النوم والسهر. كان السؤال الذي لم أفهمه بسهولة عندما يفاجأني أحد الأصدقاء أو المراجعين ويقول لي ماذا ستفعل في عطلة هذا الأسبوع او ماذا فعلت؟ (بالمناسبة، الثقافة الامريكية ثقافة بها الكثير من اللقافة الجميلة، فهم يسألونك أين ذهبت وماذا فعلت وكيف عملت كذا…الخ، في البداية كنت أتضايق من هذه اللقافة، ولكن مع الوقت اكتشفت أن هذه الاسئلة تفتح لي حوارات جانبية تجعلني أعرف بدائل وخيارات متنوعة لم أكن لأعرفها دون هذه الحوارات). نعود لسؤال عطلة نهاية الأسبوع، لم أفهم مقصد السؤال الا بعد فترة طويلة، فالحياة عندهم تنقسم لخمسة أيام عمل ويومين من المتعة والحركة والنشاط. إذهب الى أي شاطئ أو ملعب أو منتزه وستجده ممتلئ بالشباب والشابات يمارسون رياضة أو لعبة او أي نشاط  جماعي. اظن انني نجحت الى حدٍ ما في استغلال عطلات الأسبوع واكتسبت مهارة قلة النوم ولكن جيناتي السعودية لازالت قوية لدرجة تجعلني أمارس السهر كل يوم!

يعتبر السفر شيء مهم خلال إقامتي في امريكا، وقد سافرت أغلب الاوقات مع عائلتي لأغلب الولايات السياحية وفي جميع فصول السنة وبكل وسائل النقل الممكنة. لا أستطيع أن أوفي السفر حقه من الكتابة، أمريكا ليست أجمل مكان ستسافر إليه، هناك مئات الاماكن بطبيعة أجمل من أمريكا، لكن ما يميز السفر فيها هو أنك لن تعاني في التنقل أو التكيف مع المكان الجديد، بل ستصبح خلال ساعات جزء من المكان الذي ذهبت اليه. في أمريكا لست وحدك الغريب، بل أحياناً ولكثرة الزوار يصبح المواطن هو الغريب! أقول ذلك وقد عشت في أكثر الفترات ضجيجاً من الناحية السياسية والعنصرية، هل حدث لي شيء أو مررت بموقف صعب؟ الاجابة لافإن كنت تمتلك أدنى قدر من الذكاء والحظ فلن تواجه أي مشاكل متعلقة بالعرق أو الدين في أغلب الأماكن في أمريكا.

ذكرت الرياضة والاندية الرياضية والسفر وعطلة الاسبوع كجزء مهم من حياتي هنا، من المؤكد انها من أكثر الأشياء التي سأفتقدها عندما أترك هذا البلد. أشعر أنني محظوظ جداً أن جربتها وعشتها بهذه الطريقة، فالاثر الذي تركته علي وعلى عائلتي لا يمكن إغفاله أو تجاهله. أظن أن هذه الجوانب في حياة الامريكي والغربي بشكل عام، وأعني استقالاية العائلة و الرياضة والنشاط والسفر، أظن انها اشياء جميلة وتعطي الحياة أبعاد أخرى لا يشعر بها الا من جربها. أتمنى أن أحافظ على قدر معقول من هذه الثقافة التي تدعو للاستمتاع بالحياة في كل مكان وكل عمر. أختم هذا الجزء بمقولة الكاتب المبدع مارك توين: (بعد عشرين عاما من الآن ستكون أكثر إحباطًا بسبب الأشياء التي لم تفعلها وليس بسبب الأشياء التي فعلتها، لذلك عليك ان تفك حبل قاربك وتبحر بعيدا عن الميناء الآمن، دع الريح تأخذك لمكان بعيد…استطلع..و احلم.. واكتشف!).

طال السفر…والمنتظر مل صبره!

خلال ايام تنتهي رحلة الإغتراب، ظاهرياً تبدو أنها رحلة للدراسة، صحيح أن الدراسة كانت شيء مهم من هذه الرحلة ولكنها لم تكن كل شيء. أحببت حياتي هنا وأحببت هذه الارض، أحببت قسوة شتائها وروعة خريفها وتقلبات طقسها. سأفتقد قاعاتها ومنتزهاتها ومسارحها ومتاحفها وتنوعها. احببت الناس هنا من مختلف الأعراق والديانات والذين لم ارَ منهم إلا كل الاحترام والتقدير لي ولأسرتي. أترك امريكا ومعها أترك أروع لحظات حياتي وأكثرها تنوع وغنى. هل حان الرحيل؟ نعم، فها هو رمضان الثامن يأتي وأنا بعيد عن مائدة أمي، وحتماً لا اريد أن اعيش غربة العيد للمرة الثالثة عشر، أظن انني اكتفيت ولابد أن أعود. هناك في النصف الاخر من العالم تنتظرني أم أتعبها الإنتظار، وأب أعياه الإنشغال، وإخوة وأخوات وأقارب وأصدقاء هم الجذور التي تمدنا بالحب والطاقة والإنتماء للمكان والجغرافيا. سأعود وعلى عاتقي الكثير لأقدمه لكل من راهن على نجاحي وآمن بقدرتي وبفرصتي. سأعود لقريتي (العشة) النائمة على ضفاف وادي بيش، لمنطقتي جازان، لوطني المملكة العربية السعودية الذي قدم لي كل شيء. سأعود وانا أحمل أحلام وتطلعات ورغبة بالمشاركة في التنمية  في ذلك الجزء من العالم. وداعاً امريكا، أهلا بك يا وطن!

You might also like

Comments (15)

  • عبدالعزيز القاضي 7 سنوات ago Reply

    عوداً حميدا أبو لمى

    د.أنور الحازمي 7 سنوات ago Reply

    شكراً لك ياغالي

    سميرة. 7 سنوات ago Reply

    الله يوفقك وينفع بك 💙💙💙.

  • فيصل محمد الطبيقي 7 سنوات ago Reply

    حبيبي أنور نور الله حياتك بالخير والعمل الصالح الذي تفيد به البشرية وتنير به دروب الآلاف من طلابك وطالباتك. لا تتخيل السعادة التي تغمرني حينما ينهي احدكم رحلة طويلة من الكفاح تكللت بإنجاز يفخر ويفاخر به لا استعلاءً ولكن فرحةً بقطف ثمرة تعبه وجده واجتهاده، وحباً ورغبة صادقة للمشاركة في تنمية بلده ومجتمعه. لا زلت اذكر تماما المحادثة التي تمت بيننا حينما كنت في حيرة من امرك قبل الدكتوراه، هل تكتفي ام تكمل فنصحتك وبقوة الصبر وإكمال الدكتوراه لتأتي وتمارس عملك على علم ودراية. فعملك هذا هو العمل الصالح الذي نتعبد الله به ان اتقينا وأحسنا. فأسأل الله ان يسددك وينفع بعلمك وأن يعينك على اداء مهمتك القادمة على الوجه الذي يرضيه

    د.أنور الحازمي 7 سنوات ago Reply

    دكتورنا الغالي والذي تشرفت بالعمل معه في مراحل تأسيس كلية طب الاسنان بجازان، سنضل ممنونين لتلك الحقبة من عمر الكلية، شخصياً تعلمت منك واستفدت الكثير وقبل ذلك كله كسبتك أخ كبير اتشرف به في كل مكان وزمان، شكراً لدعواتك ومشاعرك الصادقة واسأل الله ان يكتب لك الاجر وكل عام وانت بخير 💐🌹

  • احمد القحطاني 7 سنوات ago Reply

    وفقك الله ابو لمى ويسر امورك

    د.أنور الحازمي 7 سنوات ago Reply

    وياك اخي ابو جمانا، اسأل الله ان يسهل لك القادم ويعيدك سالماً غانماً يارب

  • محمد البواردي 7 سنوات ago Reply

    الحقيقة كلماتك جميلة ووصفك للامور رائع. الحقيقة انت مشروع كاتب اضافة الى مونك طبيب

    فعلا اذكر تماما شعور نهاية رحلة الغربة. تختلط فيها كل المشاعر بين الفرح بالعودة وحزن الفراق

    لكن هذي حال الدنيا

    الله يرجعكم بالسلامه صدقيتها العزيز

    د.أنور الحازمي 7 سنوات ago Reply

    صديقي العزيز ابو عبدالعزيز…شكراً لكلماتك الجميلة وتشجيعك، فعلاً المشاعر مختلطة ولكني مقتنع تماماص انني لو بقيت وقت اطول ستبدأ الامور تأخذ شكل اكثر صعوبة. استمتعنا بالغربة لاننا ندرك تماماص انها حالة مؤقتة، اسأل الله ان يرزقنا واياكم الصحة والعافية لنجرب اشياء كثيرة في ازمنة مختلفة، نلتقي بخير 💐

  • عادل حزيمي 7 سنوات ago Reply

    صديقي العزيز أنور
    استمتعت بقراءة المقال وفرحت لإنجازاتك المتنوعة
    عنوانها متعة الحياة
    ومحتواها كفاح
    وكل من قرأها يجزم على تسميتها قصة نجاح
    هنيئا لك تدوينها
    وهنيئا لك الاصدار الجديد Anwar 3.0

    إعلم ان لكل طموح كفاح
    فافتخر بكفاحك قبل فرحتك بانجاز طموحك
    أعرفُ ياصديقي أنك ذو طموحات لاتنتهي
    وعلى يقين بإبداعك

    عد سالما لحضن أمك ووطنك واعلم ان الفخر لك وبك
    وعش نافعا لكل ماحولك

    ………………….
    (استأذنك مشاركة تجربتك للأجيال الجديدة)

    د.أنور الحازمي 7 سنوات ago Reply

    i
    ماذا اقول بحضورك يا عادل؟ انت الوحيد الذي ينكسر امامه قلمي وتعجز حروفي عن التعبير له بمكنون محبتي وتقديري له ولصداقته. شكراً لمشاعرك النبيلة والصادقة والتي جاءت من شخص عايش تقريباً جميع (نسخي) بكل عيوبها ولا يزال هو ذلك الصادق القريب الذي يفهمني دون ان اقول اي حرف…تشرفت بكلماتك ابا أحمد 🌹❤️

  • محمد عبده المصري 7 سنوات ago Reply

    عزيزي د. انور

    في البداية الف الف مبروك على انجازك الرائع و اسأل الله ان يوفقك في حياتك ..

    عوداً حميداً لأرض الوطن لتشارك طلابك ما تعلمته من علم نافع … و خبرات رائعة .

    استمتعت بقراءة جميل ما كتبت في موضوعك الرائع … من خواطر و خلاصة تجربة امتدت لسبع سنوات في الولايات المتحدة الأمريكية …

    تصل بإذن الله بالسلامة لأهلك و محبيك ..

    نسأل الله ان يجمعنا على. خير

  • اخي الحبيب ابو لمى
    ما شاء الله عليك
    ابداع وزوايا جميلة ترسمها ريشتك المبدعة

    اهلا بك بين اهلك
    اشتقنا لك واعلم ان رحلتك هذه ستنهي زمن الطلب ليبدأ زمن البذل
    قريتك “العشة” منطقتك “جازان” ووطنك “السعودية” كلها بحاجة لبذلك وعطائك الذي كلي ثقه بأن لديك الكثير

    وفقك الله ونفعك ونفع بك

    أخوك
    ح س ن

  • عبدالله خلوي 7 سنوات ago Reply

    قصة نجاح وفخر ينتهي منها الطلب وسيبدأ معها البذل،،
    مرحباً بك في قريتك ووطنك بين أهلك وأحبابك

  • فيصل الخيال 7 سنوات ago Reply

    عودا حميدا يا ابو لمى…. خليتني اشوف وأتذكر ايّام بطريقة ما عمري تخيلتها… صح لسانك
    لنا لقاء قريب يالغالي

Leave a Reply