Loading...

مقترح مبادرة لتطوير البحث والابتكار في كليات طب الأسنان بالمملكة

في أحد المشاهد الأسطورية من المسلسل الرائع Breaking Bad وبعد أن فقد والتر وايت أمواله يصاب بذهول ويصرخWhere is the money بعدها يدخل في موجة هيستيرية من البكاء والضحك وتبدأ الكاميرا في عمل زوم اوت يظهر معها والتر وايت ممدد على الأرض في لقطة تعكس حجم العجز والهزيمة التي حلت به! يتبادر الى ذهني هذا المشهد وأنا أقرأ التقارير اثناء الإعداد لهذه التدوينة، قد نشترك جميعاً مع مستر وايت في ردة فعله إذا علمنا ان حجم السوق الصناعي والتقني لمواد وأجهزة ومستهلكات طب الأسنان في العالم سيصل ل ٦٠٠ مليار ريال سنوياً لكننا الى الآن وللأسف لم نأخذ نصيبنا من هذه الكعكة الضخمة على الرغم من أننا نعرف Where is the money!

في دراسة أعدتها شركة بروكيير الأمريكية والمتخصصة في دراسة الأسواق العالمية في المجال الصحي، ذكر التقرير أن السوق الصناعي لمنتجات المواد والأجهزة في طب الأسنان يبلغ حوالي ٤٢٠ مليار ريال وسيصبح بعد خمس سنوات حوالي ٦٠٠ مليار ريال. لاحظ ان هذه قيمة السوق الصناعية وليست قيمة الخدمات، أي ان هذا المبلغ هو القيمة التي يتم انفاقها سنوياً على مستوى العالم لشراء مواد الحشوات والمعاجين وأجهزة الأشعة وادوات زراعة وتقويم الأسنان وخلافه من مواد وتقنيات. في هذه التدوينة سأشارك معكم بذرة لمبادرة ريادية اعتقد أنه حان الوقت لإطلاقها والعمل عليها تماشياً مع التطوير الذي حدث مؤخراً على مستوى وزارة التعليم.

لماذا يعتبر مجال طب الأسنان مختلف عن أي تخصص آخر وبالتالي يحتاج لتعامل (خاص) من ناحية البحث والابتكار والاستثمار؟

كما يعلم الكثير فطب الأسنان تخصص يتكئ على علوم ومعارف أساسية (كيمياء، فيزياء، أحياء..الخ) وعلوم تطبيقية ( هندسة، تصميم، كومبيوتر وغيره) هذا التنوع والغزارة ليست متوفرة في كثير من التخصصات، وبالتالي فأغلب المشاريع البحثية الجيدة في طب الأسنان يمكن ان تتحول لمنتجات – مثل مواد الحشوات والتركيبات والتقويم وزراعة الأسنان، أو تتحول لخدمة متقدمة تقنياً مثل أجهزة الكاد كام CAD/CAM وطباعة التركيبات والأسنان بتقنية ال3D ونحوها أو تتحول لفكرة تقنية مبتكرة في التشخيص والعلاج المبكر مثل تقنيات الكشف المبكر عن سرطان الفم وعن التسوس مما يساهم في توفير مئات الملايين. إن المشتغل بمجال طب الأسنان يتعامل بشكل مستمر مع مستجدات التقنية والصناعة في مجالات مختلفة مثل الأشعة المتطورة والليزر وصناعة البلاستيك والبوليمرز والنانومتيريلز والمعادن وغيرها، هذا الاحتكاك المباشر بين الطب والتقنية والصناعة يجعل من مجال طب الأسنان ملتقى خصب للبحث والتطوير القابل لتحويل الأفكار لمنتجات ذات جدوى اقتصادية.

إن البحث الجيد في مجال طب الأسنان يمكن أن يحقق العديد من المستهدفات التي تسعى لها الجامعات والتي تتسق مع مستهدفات رؤية ٢٠٣٠، فقد ينتج عن بحث واحد مميز ورقة علمية رصينة ومن ثم يتم تسجيله كبراءة اختراع تقود للابتكار الذي بدوره يضيف للاقتصاد المعرفي وأيضا في نفس الوقت يحقق خدمة طبية ترفع من جودة الحياة. هذا التنوع في تحقيق الكثير من المستهدفات من مشروع واحد يستحق ان يدعم بشكل يوازي حجم الفرص الكامنة فيه.

لماذا اذاً لم نتقدم كثيراً في تحويل الأبحاث في مجال طب الأسنان الى منتجات؟

خلال عامين عملت فيها مشرفاً على البحث والابتكار وايضاً وكيل للبحث العلمي بكلية طب الأسنان بجامعة جازان حاولت خلالها أن أجيب على هذا السؤال ولو بشكل جزئي، فعلى الرغم من أننا استطعنا في كلية طب الأسنان أن نكون من أكثر الكليات نشراً في مجلات ISI في الجامعة وكذلك استطعنا أن نحتل المركز الرابع في النشر العلمي بين كليات طب الأسنان ال٢٨ في المملكة الا أنني اعتقد أن ذلك لا يكفي أن نعتبر أنفسنا نجحنا بما فيه الكفاية، فكثير من الأبحاث الجيدة بقيت حبيسة الأدراج مثلها مثل أي بحث روتيني تم عمله من أجل الترقية. هذا الموت المحزن والمتكرر للكثير من الأبحاث في مجال طب الأسنان اظن أنه يعود لسببين مترابطين:

السبب الأول أننا في مجتمع طب الأسنان (وكذلك المجتمع الطبي) بعيدين عن مفاهيم بيئة الأعمال التجارية/الصناعية/التقنية ولا نفكر بالطرق المستخدمة في البزنس والتي تقيس جودة الفكرة وملائمتها للسوق قبل البدء بها، لو سألت الكثير من الباحثين مثلاً عن مخطط نموذج الأعمال Business Model Canvas فلن تجد الكثير يعرفون عن ماذا تتحدث.

السبب الثاني هو عدم معرفة الباحثين بإمكانية وجود شركاء محتملين في الصناعة والتقنية ممن يساعدون في توجيه الأفكار وكذلك تقييمها وتحليلها وتسويقها لكي تتحول في النهاية لمنتج تجاري. هذا الجهل بمفاهيم ال research commercializationعند اغلب الباحثين في طب الأسنان جعل أقصى الطموح هو النشر العلمي، متساويين في ذلك مع أي باحث يعمل في تخصص نظري بحت وبالتالي يلغي القيمة التنافسية لمجال خصب مثل طب الأسنان.

ما هو الحل المقترح للوصول للهدف المنشود وهو دعم الاقتصاد المعرفي من خلال البحث والابتكار في مجال طب الأسنان؟

مثل كثير من المشاكل التي تواجهنا، هناك حلول مجربة لدى الدول التي سبقتنا وكل ما علينا هو انتقاء أفضل الحلول المتاحة، وبحكم أنني خريج المدرسة الأمريكية في طب الأسنان فسأشارك الحل الذي عشته خلال سنوات البعثة. خلال دراستي في الولايات المتحدة الأمريكية كانت لي تجربة طوال فترة الدكتوراه بالعمل على مشاريع بحثية ممولة من المعهد الأمريكي للصحة NIH والذي يعتبر أكبر جهة تمويل بحثية في العالم بميزانية سنوية تصل ل٣٦ مليار دولار (حوالي ١٣٥ مليار ريال تنفق سنوياً لدعم الأبحاث في المجال الطبي فقط). إن الطريقة التي يعمل بها المعهد في تمويل الأبحاث عبارة عن تراكمات وتجارب لحوالي ١٥٠ عام وصلوا من خلالها لنتيجة بسيطة وهو أن الدعم الفيدرالي الحكومي للأبحاث بمثابة الاستثمار الحكومي، عليك أن تقنعهم من خلال المقترح البحثي أن مشروعك هو الأجدر بالدعم لأنه سيعود بالفائدة!

في الجزء الباقي سأضع خطوط عريضة مقتبسة من تجربة الNIH عن الحل المقترح للارتقاء بمستوى الأبحاث في تخصص طب الأسنان في الجامعات السعودية. هذه الاقتراحات ستكون بمثابة نواة لمبادرة تحتاج منكم للنقاش والتعديل لتنضج بشكل أفضل قبل أن يتم تقديمها لوزارة التعليم.

الخطوة الأولى هو انشاء مكتب مستقل في وزارة التعليم معني بتمويل وحوكمة البحث والابتكار في كليات طب الأسنان – Dental Research and Innovation Office

اغلب الجهات المشرفة والممولة للأبحاث في العالم لا تقوم بتمويل جميع التخصصات من خلال منصة واحدة وإنما تقوم بعمل مراكز داخلية لكل تخصص، مثلا في الNIH يوجد ٢٣ مركز لأغلب التخصصات الطبية، منها مركز معني بتمويل أبحاث طب الأسنان فقط، يقوم هذا المركز بتحديد الأهداف ومقدار المنح ومراجعة المقترحات وتحكيمها وتدريب الباحثين وغير ذلك من الخدمات التي تستهدف الباحثين في مجال طب الأسنان في كامل أمريكا. جميع الباحثين في مجال طب الأسنان في امريكا يتنافسون سنوياً للفوز بمنحة من خلال هذا المركز، هذا التنافس بين أبناء التخصص الواحد هو المحرك الأساسي للإبداع والابتكار، فبنهاية الدورة البحثية يتم إعلان الباحثين الفائزين والجامعات التي ينتمون لها، حتى أن الجامعات أصبحت تتفاخر بعدد الباحثين الذين فازوا بمنح بحثية في دلالة على تميزها مقارنة بجامعة أخرى. الذي يحدث لدينا الآن في السعودية أن روح التنافس مع زملاء التخصص أو بين كليات طب الأسنان ومن ثم الجامعات يكاد يكون معدوم . ما نحتاجه في تخصص طب الأسنان أن يكون لنا مرجعية تدير وتنظم وتوجه المنافسات البحثية بين جميع كليات طب الأسنان في المملكة.

مهام مكتب البحث والابتكار في طب الأسنان:

١- الإعلان عن منافسة منح بحثية بين جميع كليات طب الأسنان.

إن كليات طب الأسنان بعددها الذي يصل ل٢٨ كلية واساتذتها الذين يصلون للآلاف وطلابها الخريجين الذين يصلون للآلاف ايضاً والملزمون بعمل أبحاث للتخرج (كل خريج من كلية طب أسنان في المملكة ملزم بعمل بحث لمدة عام كامل مع مشرفين مختصين) هذا العدد من الباحثين والمشرفين وطلاب الدراسات العليا وأطباء الامتياز وحتى الطلاب جميعهم طاقات كامنة ورأس مال بشري مدرب يحتاج لمحفز تنافسي في مجال البحث والابتكار. الإعلان عن منافسة وطنية في أبحاث طب الأسنان سيكون أثره مثل الشرارة المتقدة في ذهن الجميع وبذلك ينتج لدينا العديد من الأسئلة والأفكار البحثية الجيدة التي قد تصبح شيء مهم في يوم ما. لو استطعنا الحصول سنوياً على ١٠ أفكار فقط ذات جدوى اقتصادية سنكون أنجزنا في سنتين مالم ننجزه في عشرات السنين.

٢- تدريب الباحثين على تقديم المقترحات بطريقة توضح الفائدة والجدوى الطبية و الاقتصادية من البحث

بالحديث عن تجربة NIH في كتابة المقترحات فإن المراجع للمقترح البحثي في نموذج R01 مثلاً يعرف من أول صفحة هل سيتم تمويل البحث أم لا! إن كل مقدمة في المقترح البحثي يجب أن تجيب بوضوح مع الشواهد المنطقية على نقطتين مهمة وهما: هل هناك أهمية وأثر للمشكلة التي يراد حلها Impact & Significance ومن ثم هل الحل المقدم ابداعي ويحمل فكرة جديدة Novel & Innovative معنى ذلك أن الباحث مثلاً في مجال طب الأسنان يحتاج أن يجيب عن أسئلة مثل:
١- هل سيحسن هذا المشروع من جودة حياة المريض؟ كيف؟
٢- هل سيوفر هذا المشروع من تكاليف العلاج؟ كيف؟
٣- هل سيساهم هذا المشروع في تسهيل العلاج؟ كيف؟
٤- هل سيقود هذا المشروع لتطوير منتج يسد حاجة في مجال طب الأسنان؟ كيف؟
٥- هل سيطور هذا المشروع من منتج او خدمة قائمة؟ كيف؟

إذا استطاع الباحث أن يجيب بنعم على أي من هذه الأسئلة وشرح ذلك بشكل منطقي سيتم تمويله والمراهنة على أن مشروعه فريد من نوعه وأن هناك احتمالية كبيرة آن يتم تحويله لمنتج معرفي ذا قيمة اقتصادية.

٣- تسويق الأبحاث الناجحة وتحويلها من أفكار على الورق الى منتجات ملموسة

هذه الخطوة هي التي ستحدث الفرق، فبعد أن تكتمل الأبحاث المميزة تأتي مرحلة تسويقها للجهات الصناعية والتقنية والتي من الصعب على الباحث أن يتواصل معهم بشكل فردي، على الأقل في طب الأسنان. وجود المكتب سيجعل العمل مؤسسي أكثر ويسهل عملية التواصل بين الباحثين وبين الشركات الراغبة في الاستثمار وسيجعل المكتب مستودع للأفكار المميزة لمن أراد الاستثمار في هذا المجال.

الهدف المانيا IDS 2023

لكي يصبح للعمل الذي نقوم به قيمة، علينا أن نتحدى أنفسنا بوضع أهداف تستحق العناء. في مارس ٢٠١٩ أقيم في المانيا المؤتمر العالمي الأكبر والذي يضم جميع شركات طب الأسنان في العالم والذي ينعقد كل سنتين. يجتمع تحت قبة هذا المؤتمر أكثر من ٢٣٠٠ شركة متخصصة في منتجات طب الأسنان من ٦٣ دولة. في هذا المؤتمر تجد المئات من الشركات العملاقة والمئات ايضاً من الشركات الناشئة التي مازالت في بدايتها تعرض منتجاتها الأولية وتبحث عن شركاء دوليين. على الرغم من ان عدد الشركات التي تحضر للمؤتمر كبير جداً الا انه وبكل أسف لم يكن هناك أي شركة سعودية! سيقام المؤتمر القادم في ٢٠٢١ ثم ٢٠٢٣ التحدي الذي نحتاج أن نضعه أمام أعيننا كمختصين في طب الأسنان هو: هل نستطيع المشاركة لو بشركة ناشئة واحدة تقدم منتجات طب أسنان تم تطويرها في المملكة؟ اظن انه تحدي حقيقي ولكنه ليس مستحيل إذا ما وجدت هناك الإرادة والدعم والبيئة المناسبة بعد التوفيق من الله سبحانه وتعالى.

في ختام هذه التدوينة أدعوك عزيزي المهتم بالبحث والابتكار أن تثري هذا المقترح بالتعليق والنقاش ومشاركة هذه التدوينة لكي يتم تقديمها كمبادرة إنشاء مكتب لدعم وإدارة الأبحاث في طب الأسنان يكون تحت اشراف وزارة التعليم يهدف الى الوصول لأفضل الأفكار البحثية في مجال طب الأسنان في المملكة ومن ثم متابعتها ودعمها للوصول الى منتجات تجارية يتم تسويقها محلياً وعالمياً.

You might also like

1 Comment

  • ’’ 5 سنوات ago Reply

    يعطيك العافية د.انور على طرحك هذا الحوار واوافقك فيما يخص السياسة المبدئية لبدىء عملية تطوير البحث و الابتكار العلمي وتحويله لمنتج استهلاكي وكلنا نأمل ان يتطور القطاع الصناعي الطبي لانه من بين كل الصناعات تمتلك الصناعة الطبية البنية المناسبة لتحسينها وجعلها من ضمن مبادرات 2030 لكن حسب علمي الصناعة الطبية ليس لها ذاك النصيب من الاهتمام وكل مانراه هو اجتهادات فردية بدعم حكومي متواضع (الصناعات الدوائية خير مثال )

    لكن الحقيقة مهتم لو في المستقبل تشاركنا عن التحديات الي واجهتها في الكلية وحصولكم على المركز الرابع ؟

    واذ اردنا ان نتحدث عن مستوى الابحاث في الكليات في المملكة لا اظنه مرضي للجميع ، كشخص تعلم ولايزال خلال هذه المنشأت نجد فيها معوقات كبيرة و انفصام تام من قبل المسؤول عن التحديات الي تحد من عملية الابتكار والبحث العلمي المثمر الذي يساهم في تقدم العلم وليس كما ذكرت بحث من اجل الارتقاء الوظيفي. فالمشكلة ان اي مسؤول لا يضع اهداف واضحة لتطوير الكلية والكل يحرص على تحقيق اهداف متواضعة تخدم مصالحه او لا يوجد حتى اهداف وفقط تكون الية العمل هي “نسوي الي نسويه كل سنة” وهذه مشكلة كبيرة ، العمل الاكاديمي في المملكة يمر بفقزات عالية في مجالات مختلفة ومتفائل من خلال استقلالية الجامعات بان عملية التطوير و اتخاذ القرار ستكون اسرع و البحث العلمي سينال من رايي ايجابيات هذا التحول.

    اود ان اختم بأننا اذ اردنا ان نصل الى مستوى العالي في دول العالم المتميزة في البحث الطبي امثال بريطانيا و المانيا و امريكا فأنه كهدف قابل لتنفيذ خلال 20-30 سنة لكن اراه من الظلم ان نعتمد على الدعم الحكومي لبدىء هذه العملية ، تستطيع الجامعات من عبر استقلالها الذي سيحصل في المستقبل القريب على توفير مصادر دخل من دعم حكومي و ايضا التركيز على عمل مبادرات وشراكات تجارية ومن خلالها تدار المؤسسة الاكاديمية مبدىء الفعالية و الانتاجية ، والدعم الحكومي لا يجب ان يكون من خلال شيك مالي ، بل صنع شراكات مع وفود الدول الحليفة التي نتشارك معها نفس المصالح من خلال هذا القطاع و يوجد الكثير من الشركات المحتملين في اوروبا و دول شرق اسيا.

Leave a Reply