Loading...

الابتكار في الجامعات السعودية: النماذج الحالية والنموذج المفقود!

 قبل حوالي سنتين ونصف كتبت مقالة عنوانها (لماذا يجب على الجامعات التركيز على دعم بيئة ريادة الأعمال دون أن تأخذ دور القيادة؟). ذكرت  في تلك المراجعة التحليلية أهم نقاط القوة والضعف التي يراها الخبراء والمختصون في مفهوم الريادة والابتكار في الجامعات. في هذه المقالة والتي أعتبرها امتداد للمقالة السابقة، وبعد وقت كافٍ من المتابعة والرصد لمراكز الابتكار وريادة الأعمال في الجامعات السعودية، وجدت ثلاثة  أنواع من مراكز الابتكار في جامعاتنا، في هذا المقال سأذكر النماذج الثلاثة الأكثر شيوعا مع ذكر مثال على كل نوع ثم سأتطرق للنوع الرابع الذي لم يوجد لدينا بعد ولماذا أعتقد أنه نوع مختلف و يجب تبنيه!

النوع الأول: مراكز ريادة الأعمال:

في هذا النوع، وهو الأكثر انتشار، تدور فكرة الابتكار حول مفهوم ريادة الأعمال بشكل رئيسي، نجد في هذا النموذج أن المركز يتحدث لغة البزنس ويشجع على بدء شركات ناشئة. في هذه المراكز تكون لغة إدارة الأعمال وأدبياتها هي المسيطرة، فيكون الحديث للطلاب وغالباً طلاب البكالوريوس عن أفكار تجارية يحتاجها سوق العمل. رسالة هذا النوع من المراكز أنك ستأتي أيها الطالب بفكرة تجارية وسنساعدك في تحويلها لشركة ناشئة وستدعمك الجامعة في ذلك مقابل أن يكون لها نصيب من هذا الاستثمار.

هل نجح هذا النموذج لدينا؟ وحتى لا نكون عاطفيين أو نتسرع بالحكم دعونا ننظر كيف يقيس الغرب وتحديداً في أمريكا نجاح هذا النوع من المراكز، إنهم يقيسونه بعدد الشركات الناشئة التي خرجت من رحم هذه المراكز  spin off companies ومدى نجاحها واستمراريتها، لذلك كي تعرف هل نجح مركز الابتكار في الجامعة الفلانية عليك أن تسأل كم عدد الشركات الناشئة التي ساعد في إطلاقها؟ وإذا حاولنا تطبيق نفس السؤال على مراكز الابتكار من هذا النوع  فإنك ستجد أن أغلب الجامعات تفشل في تجاوز هذا الاختبار ويظل المركز يحاول ويحاول ولكنه يصطدم بمعوقات وعثرات أكبر منه.

هل يوجد لدينا مثال ناجح لهذا النوع من المراكز؟ الجواب نعم، هنا يبدو أن الاستثناء هو القاعدة، لقد قطعت جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (كاوست) شوط كبير في الابتكار وأطلق مركز الابتكار في كاوست عدد من الشركات الناشئة ولازال المركز مؤهل لعمل المزيد، لماذا؟ لأن البيئة الريادية هناك (ecosystem) تعتبر الأنضج بين جميع جامعات المملكة، فإذا كانت جامعتك لديها بيئة مشابهة أو قريبة من بيئة كاوست فألف مبروك اختيارك لهذا النموذج، لأنك غالباً ستحقق بعض النجاحات اذا تم توظيف الإمكانات والقدرات بشكل مناسب.

النوع الثاني وهو مركز الابتكار المتحالف مع الشركات الصناعية:

 في هذا النوع يستفيد مركز الابتكار من وجوده المكاني بالقرب من شركة ذات إمكانيات كبيرة فيكيف نفسه ليتلاءم مع توجهات هذه الشركة ويحقق أهداف المركز. مثال على ذلك مركز الابتكار في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن والشراكة التي يعقدها مع شركات بحجم أرامكو، لذلك لا نستغرب اذا وجدنا أن عدد براءات الاختراع التي تنتجها جامعة الملك فهد للبترول والمعادن يفوق ما تنتجه الدول العربية! فمنذ عام ٢٠٠٦ ركزت الجامعة على هذا النوع من البراءات واستطاعت أن تنافس دول في عدد ونوعية براءات الاختراع المنبثقة عن شراكات مع القطاع الصناعي. إن ما يعرف في عالم الريادة بالميزة الغير قابلة للمنافسة (uncompetitive advantage) والتي تحظى بها الجامعة تمكنها من ذلك. اذاً هو  ذكاء ووعي من إدارة الجامعة أن كيفت نفسها مع هذا النوع من الشراكات وركزت على نوع معين من الابتكارات يتوافق مع طبيعة الجامعة وسوقها المستهدف.

النوع الثالث هو مراكز الابتكار التي ركزت على براءات الاختراع الجامعية:

في هذا النوع تجد أن الجامعة حريصة على تحويل الأفكار والأبحاث لاختراعات يمكن الحصول فيها على حقوق الملكية الفكرية وبراءات الاختراع، بغض النظر عن ما يحدث لهذه البراءة مستقبلاً، تجد أن هذه المراكز نجحت في انتاج عدد لا بأس به من براءات الاختراع وتحديداً المسجلة في المكتب الأمريكي، هذا النوع من التركيز له ميزات تنافسية بحيث يصبح كل بحث جيد أو فكرة جيدة  قابلة للتحويل لبراءة اختراع بمجرد وجود الميزانية المتاحة! فكما يعلم أي مهتم ببراءات الاختراع، يوجد في الولايات المتحدة الأمريكية مكاتب محاماة متخصصة للمساعدة في صياغة الفكرة وتسجيلها قانونياً في مكتب براءات الاختراع الأمريكية. هذا النوع من المراكز نجد مثاله في جامعات عريقة مثل جامعة الملك سعود وجامعة الملك عبدالعزيز، يبقى امام هذا النوع من المراكز تحدي آخر وهو تسويق البراءات للمهتمين وتحويلها لمنتجات صناعية ذات قيمة تجارية، وهذا تحدي ضخم جداً يحتاج لسنوات من العمل.  فإذا كانت الجامعة لديك تتميز بوجود نخبة من الباحثين المميزين وكذلك يوجد ميزانية جيدة  لتحويل ابحاثهم وافكارهم لبراءات اختراع، فهذا النموذج  يرسم لك طريق واضحة لنوع محدد من الابتكارات وهو براءات الاختراع.

ولكن ماذا لو لم تكن قريب من أرامكو مثل جامعة الملك فهد للبترول والمعادن؟ ولا يوجد لديك موارد  مثل جامعتي الملك سعود والملك عبدالعزيز؟ ولا تتمتع ببيئة ابتكارية استثنائية مثل جامعة كاوست؟ هذا يقودنا لنوع آخر من مراكز الابتكار لم نره بعد في جامعاتنا وهو ما يعرف بالابتكار  الجامعي Innovative University

النوع الرابع: مراكز الابتكار الجامعي Innovative University

 تركز هذه الجامعات على تطوير كل ماله علاقة مباشرة بمهام الجامعة الرئيسية وهي التعليم والبحث وخدمة المجتمع. انتبهت هذه الجامعات أنها تحتاج لأن تبتكر لكي تجذب الطلاب اليها، وتحتاج أن تبتكر لتؤثر في مجتمعها وتحتاج أن تبتكر لترفع قيمة أصولها وتعزز مواردها وتحتاج أن تبتكر لتستفيد من أساتذتها والعاملين فيها. عندما نجحت هذه الجامعات في ابتكار طرق حديثة للتعليم وطرق مبتكرة لدمج الطلاب وتحسين مستوياتهم و رفع مهاراتهم استطاعت بعد ذلك أن تسوق لبرامجها التعليمية والبحثية والخدمية وتتميز فيها. نتيجة لكل ذلك، تكون لديها منظومة إبداعية متكاملة أصبحت بيئة جاذبة لأفضل الطلاب وأفضل الأساتذة، وبالتالي خلقت بيئة محفزة للابتكار! وفقط عندما استطاعت أن تخلق بيئة محفزة للابتكار، انطلقت في كل المجالات، فخرجت منها شركات ريادية، وحصدت الاختراعات، وتبنت ممارسات ذكية وجديدة في التعليم وفي دعم الأبحاث وخدمة المجتمع جعلها مستعدة للمستقبل وللتغيرات التي يشهدها قطاع التعليم الجامعي.

 من الأمثلة على هذا النوع، جامعة ولاية اريزونا، استطاعت هذه الجامعة أن تفوز بأكثر جامعة ابتكارية لسبع سنوات متتالية، ليس لأنها أنتجت العدد الأكبر من براءات الاختراع، وإنما لأنها غيرت التجربة الجامعية على جميع الأصعدة، عندما سُئل رئيس الجامعة، ماذا يعني الابتكار في جامعة ولاية اريزونا، كان جوابه ” الابتكار جزء من DNA جامعة اريزونا، نحن متشوقين دائماً لدعم الأفكار الجديدة في مجالات التدريس والأبحاث والشراكة المجتمعية” فبمجرد تصفحك لموقع الجامعة ستعرف أنهم كسروا  الكثير من القيود لدرجة أنهم أطلقوا على أنفسهم لقب (الجامعة الأمريكية الجديدة).

أما جامعة ستانفورد العريقة، فتعتبر من أوائل الجامعات التي اهتمت بدراسة وتعليم الابتكار  ويعتبرون رواد ما يعرف بالتفكير  التصميمي Design Thinking  حيث تقوم الجامعة بتدريس طلابها وأساتذتها، بغض النظر عن التخصص، طريقة التفكير التصميمي والذي أصبح مدخل علمي لطريقة تفكير ابتكارية تساعد على فهم تجربة المستفيد وتقديم الحلول، سواء كان هذا المستفيد طالب في كلياتها، أو باحث في معاملها، أو مريض في مستشفياتها، فإنه حتماً سيجد تجربة مختلفة بدأت فكرتها من معمل الأفكار الابتكارية في الجامعة.

ماذا تحتاج الجامعة لتشغيل هذا النوع من مراكز الابتكار ؟

تحتاج لفريق عمل يفهم اساسيات الابتكار والابداع ويرسم استراتيجية الابتكار بطريقة تطبق أصول الممارسات الابتكارية والابداعية وينقل أفضل الممارسات العالمية. تحتاج لمركز ابتكار يتصرف كأنه شركة ناشئة داخل الجامعة، يحلل ويدرس مناطق الألم في الجامعة، يفهم تجربة المستخدم فيها ويجرب حلول ابتكارية وكأنه يجرب منتجات في شركة ناشئة فيعدل ويغير ويفشل وينجح تماماً مثل أي شركة ناشئة ترحب بالاستكشاف والتجربة.

إن أي جامعة لن تنجح في خلق “الابتكار الجامعي” ما دامت تؤدي مهام الجامعة الرئيسية بطريقة تقليدية، فالبيروقراطية والقيود التي يعيشها الواقع الجامعي تقتل بيئة الابتكار! الابتكار منتج فكري ابداعي، والمنتجات الفكرية تحتاج أن يتم تبنيها في بيئة تسمح بالخطأ وتشجع على تجربة المجهول.

ختاماً، وللقراءة أكثر عن الابتكار في الجامعات، أحيل القارئ لعراب الابتكار وصاحب أشهر كتب الابتكار The Innovator’s Dilemma بروفسور إدارة الأعمال بجامعة هارفارد Clayton Christensen  في كتابه المختص بالابتكار في الجامعات The Innovative University: Changing the DNA of Higher Education from the Inside Out

You might also like

No Comments

Leave a Reply